صباح كل يوم تمتزج البنية التحتية غير المهيئة، الصراخ، و التلوث، بضجيج
الإنسان المتوتر و الغَاضِب. التعب و حتى الخوف، يظهران على وجوه المارة و
الواقفين بانتظار وسائل النقل العامة. القانون في نظر الكثيرين يَنْحصر على أمن
المملكة، الشرطة و المحاكم، و ليس له علاقة بمُحَدِدَات تفاصيل التصرف الشخصي
اليومي الذي يسعى لجعل حياة الجميع أسهل. هناك الكثير على بال المواطن المسكين فلا
يَسعَهُ الإنتباه الى تفاصيل احترام قوانين البيئة أو المواصلات، أو حتى التفاصيل
المتعلقة بالأخلاق التي درسها الأغلبية في التربية
الوطنية أيام الإبتدائي.
هناك غضب عارم مختبيء في تفاصيل معاملاتنا اليومية، يتسرب كالبخار المُتَسرب
من طنجرة ضغط تكاد و لكنها لم و يبدو أنها لن تنفجر. بالقياس الإنفجار يكونُ إما
بالإبداع أو الإختراع أو بارتكاب جريمة أو شيء فظيع آخر كجرح مشاعر شخص ما تفاجأ
بخيانة غير إنسانية كبيرة من قِبَل شخص "قَرَصَهُ". أُريدُ، كما أعتقد
أن الجميع يريد، أن تنفجر طنجرتي، أن أنطلق بِحُرِّيَّة و قوة دون آلام و حكمة
التجارب الحياتية الغبية.
نظرة على مستوى صغير في الشارع قد تُعطي الإنطباع بأننا لم نَعُد نعيشُ في
مجتمع، بل نحن مجموعة من الأفراد المنفصلين العالقين في هذه الحُفرة المقرفة. لكن
نظرة عامة، تتجاهل مشاعري الشخصية بإتجاه الأشياء التي لا أُحبها و تتركز على
طبيعة المجتمعات البشرية تجعلني أتمعن حظنا العميق بعدم وجود إنفلات و فوضى يفوق
ضررها ضرر الأوبئة. كلنا نأمل بعالم أجمل و أنا لا أعرف الحل، و لا أسعى إلا
لِلَفتِ الإنتباه لمشاكلنا المشتركة و دورنا المشترك الذي رميناه تحت اليأس من
الآخر و حيواتنا الشخصية و طموحاتها المُبَررة طبعاً.
التعب، يُنسينا الحُب و يستهلك الشغف. فأذكر أيام المدرسة إنتقال حبي من
فتاة لأخرى و أُدرك الآن من خلال نظري الى صراخ السيارات و تَلَوُّثِ قائديها، بأن
الإنتقال كان لأني سئمتُ الألم..
و هذا ما يحدث كل يوم بيننا في العمل أو في الشارع، لا وقت للحب و لا
للوجع، فقط للربح أو الخسارة، فقط للحرب الذي إخترعناها بين أنفسنا لأننا نسينا أن
في الطفولة الساذجة البريئة جمال يفوق بشاعة المكر و الدهاء.
تنظر في عيونِ البعض و ترى فيها خجلاً من حياتهم و في عيون الآخرين ترى
فيها السُئمَ من الخجل و الإنتقال الى صراحة و قوة التأقلم على أشياء لم نريدها
أبداً و لكنها هنا واقع ملتصق في حياتنا كالتصاق الطين في أحذيتنا؛ لن نغسلها
لأنها حتماً ستتطيَّن مرة أُخرى. عزيزي القاريء، في داخلي الكثير من التمني أنَّكي
أو أنك لم توافقني أبداً فإن وافقتني فوقعت في فخ التشبيهات التي لا تعكس الواقع
بدقة، فنحنُ فقط يبدوا أننا نعيش في حفرة من الطين لكننا لا نعيش في هذا الوضع
تماماً: الأمور تحت سيطرتنا بالكامل، لكن كمجموعة و ليس كأفراد.
يتسرب الألم من شرطي المرور بَصَفير مستمر و غير واضِح الغَرَض و بقسوة
سلطته الصارِخة على سائق تكسي لا يجد مكاناً لإنزال راكب.
أما سائق التكسي، فيتسرب ألمهُ بسرقة رُبع دينار "إكرامية" من
كُل راكب يستطيع أن يأخذها منه. و بوقاحة القيادة و بتجاهل أو حتى إخافة المشاة
الذين يحاولون قطع الطريق. هناك من يموتوا بِغياب خط المشاة أو لأن أَرجُلهم ضاقت
صعود جسر المشاة العالي أو بسبب مشاعرنا؛ فقد كان صباح السائق مملاً، و لم يكن
يريد أن يُبطيء.
يَمُرُ العقيد بين الناس بتواضع يشبه الخوفَ فمن المعلوم أن الناس ضاقت
منذُ زمنٍ أبعد من الربيع العربي، سلطة المسؤولين أو لأن أصحاب الرُتَب ضاقوا خوف
العامة منهم.
عمري 23 سنة و أَنظُرُ متفاجأً، كل يوم، إلى عالمنا الذي أصبح فيه الشباب
هو الطيش و الإكثار من القهوة و السجائر. لم يَعُد هناك حكمة في العمر الطويل و ما عادَ
إلا العجزُ و الضعف و قلة التركيز و عجائز يُوَرِّثونَ الألم و الخوف و الفشل و
الحكمة الزائفة المنبثقة من تجارب لم يجدر بهم خوضها و يتسرب ألمهم بِلومِ الشباب
على فظاعة الحياة و بؤسها التي ورثوها هُم للشباب اليوم. فيتسرب ألم الشباب بإدعاء
العجز.
كنت أمشي في الشارع ذات مرة عندما رأيتُ سيدة تمشي مع أُخرى مع طفل يقفز
بِمَرح أمامهم و هي تقول له: "و بعدين مع هذا اللَعِب؟!" فانشَلَّ
نِصْفُ مرح الطِفل الذي يحاول أن يتجاهل أُمَه و صوت الصفعات و الصراخ الذي على
الأغلب يتلقاه عندما يحاول أن يكونَ، بكل براءة و بساطة، طفلاً. ماذا كانت تريد؟
كانوا بعيدين عن السيارات و خلف عمدان أبينة العمارة التي كانوا بأسفلها. هل كانت
تخشى أن نفلت إبنها بقفزاته الى عالم المخدرات؟ أم كانت تخشى أن ينقلب على حكمها
بيناعة برعمه؟ تريده مؤدباً هادئاً كالرصيف! كأن هناك مشكلة في حيوية الطفل و ليس
العكس. الأم الحنونة هذه و ثقافتها و دوافعها البدائية هي جرثومة مجتمعية يجب
تدميرها.
يَكْبر الطفلُ متألماً و يتسرب ألمه بالخوف من القفز و اللعب و الغيرة من
هؤلاء الأطفال الذين لم يتعرضوا لقسوة حب آبائهم و أمهاتهم الخانق.
ألم الطلاب يتسرب برسوب إمتحاناتهم و لوم محاضريهم الذين يتسرب أَلَمهم على
صورة خيبة أمل أزلية من طلابهم و قُرْب انعدام مبالاتهم بما يَخُص العملية
التعليمية.
و يتسرب ألم الإنسان بالأنانية.
كثيراً ما أخرج من البيت دون أن أكونَ واضعاً لنظاراتي الطبية أو عدساتي
اللاصقة. يبدو الناسَ أجمل تحت غطاء التَغَبُّش الذي يُزِيلُ ملامح وجوههم
المُتَغَبِّرَة بمشاكل الحياة و التجارب القاسية و الرغبات التي لن يتم إرضاؤها أو
بالعلاقات التي يَنْدُرُ ما أن تكونَ بسيطةً و مريحةً في هذه الدوامة من من
الأشياء التي من الأجدر منا ألا نتعلم منها و التي نسميها الحياة. فالحياة، في
النهاية، ليست التجارب التي نَمرُ بها بل هي نحنُ، هي أفكارنا و أمانينا و
مشاعرنا، هي اختياراتنا الخارجية و الداخلية كل يوم، كل لحظة.
شهر 12 أو 11 2012
No comments:
Post a Comment